من الطقوس المعروفة في شمال أفريقيا بمختلف أنحائها ومناطقها سواء الناطقة بالأمازيغية أو بالعربية العامية، الطقس المعروف بـ(تاغنجا) أو تاسليت أونزار (بزاي مفخمة) أي عروس المطر الذي يعد من أقدم الشعائر الاستسقائية، ويهدف إلى استمطار السماء حين تكون الأرض والمحاصيل مهددة بالجفاف والتلف وشح المياه. وتتشابه طريقة ممارسة الطقس بعناصرها الرئيسية في مختلف المناطق، ولم يتم تسجيل إلا اختلافات شكلية طفيفة جدا في ما بينها.
عموما حسب العرض المفصل الذي قدمه عنها المستمزغ الشهير إميل لاووست Emile laoust في مؤلفه القيم: Mots et choses berbères حيث أفرد قسما مهما من هذا الكتاب لكيفية أداء شعائر (تاغنجا) عبر بلدان وقبائل شمال أفريقيا، وهو ما سنقدم عنه ملخصا موجزا، محاولين إبراز السمات المشتركة بين هذه الطقوس، ومساءلة رموزها، وبحث دلالاتها والميث Mythe المفسر لها بهدف استخلاص الرؤية التي تنطوي عليها:
طقوس (تاسليت أونزار) أو تلغنجا :
ورغم أن الدمية تتخذ في الغالب من المغرفة (أغنجا) مكسوة بزي العروس، أو قد يكتفى بمغرفة أو ملعقة مطبخ بسيطة أثناء التطواف (كما هو الحال بتونس في جربة، أو مزاب بالجزائر…)، فإنه قد يستعاض عن المغرفة بأشياء أخرى كالقصب أو القمع، أو المسحاة2، ولكن هذه الدمى ورغم اختلاف ما صنعت منه، فإنها تظل تحمل إسم غونجا أو تلغنجا أو تاسليت أونزار.
ففي أيت سغروشن بالوسط المغربي تصنع الدمية من قمع فوق قضيب، ويغطى بغطاء الرأس، وقلادة تحملها أثناء التطواف. وفي منطقة الريف بالمغرب الشمالي يتم إلباس مسحاة على شكل عروس تسمى (تاسريت أونزار)3، وبإيبقّوين بنفس المنطقة تحمل الدمية إلى عين ماء، حيث تسقى من قبل أعضاء الموكب مرددين׃ «أربّي ارحم أغ س وامان أونزار» بمعنى يا ربّي ارحمنا بغيثك، ويتم في النهاية تجريدها من ثيابها، وغرسها في ركام الأزبال، حيث تظلحتى يبللها المطر.
الميث المرتبط بطقوس تاسليت أونزار׃
كل الباحثين الذين عرضوا لهذه الطقوس ووصفوها لم يوردوا في سياق دراستها، أو التعليق عليها أي ميث (أسطورة) مؤسس لها، باستثناء جونوفوا Genevois الذي عثر على رواية شديدة الأهمية دونها من قبيلة أيت زيكي منطقة القبايل الجزائرية، رغم أن بعض من كتب في الموضوع لمح إلى إمكانية أن يكون قد وجد ثم ضاع.
فهذا لاووست Laoust المعروف ببحثه الاتنوغرافي المطول في هذا المجال يدرك أن هذه الطقوس الزراعية المقترنة بالتجدد والبعث، تأتلف فيها عناصرميث لم يتمكن الأمازيغ حسب رأيه من بلورته، إذ يذهب إلى أن «الشعوب الأخرى غيرهم، قد تمكنت من أن تستخلص من طقوسها الزراعية المرتبطة بنمو النبات والخصوبة شخوصا رمزية بارزة جليلة على غرار IsisوDemeter وOsiris و eus وغيرها»4، وهو نفس الرأي يشاطره تقريبا هنري باسي Henri Basset، إذ يذهب بدوره إلى أن الطقوس الزراعية من مثل زواج تاسليت/الأرض بـ(إيسلي أنزار) لدى الأمازيغ قد «أفسح المجال للميث على نحو مثير (لدى شعوب أخرى طبعا)، إذ أبدعت مصر وسوريا واليونان وآسيا الصغرى حول موضوعات من هذا الصنف أعظم وأكثر الدورات الميثية (الأسطورية) اكتمالا مما نقلته إلينا العصور القديمة. أما لدى الأمازيغ، فلا ميث، لا شيء سوى الطقس، إنهم لم يعرفوا- حسب اعتقاده- كيف يستخلصون من هذه الممارسات السحرية المحاكاتية التي يعينون بها قوى الطبيعة على إتمام عملها التخصيبي والبعثي إلها أو آلهة أو بطلا يمتلك فعليا شخصيته المحددة أو أسطورته..».5، لكن هذا الرأي لم يمنعه من القول بأن ورود بعض عبارات أو كلمات في اللغة، من مثل تاسليت أونزار (وهو الاسم الذي يطلق على الطقس المذكور كما يطلق على ظاهرة قوس قزح في لغة الأمازيغ) قد يشير إلى ميث لم يتح له التطور، أو بالكاد ولد ثم اختفى، وهو ما يجعله يتساءل׃ هل تكون تاسليت أونزار(أي قوس قزح) هي الطريق الذي يسلكه أنزار للالتحاق بعروسه الجديدة؟
غير أن هنري باسي H.basset يسقط في فخ الأحكام القيمية التبخيسية، فيصرح بأن «الأمازيغ ومع كل ما لديهم من عناصر بناء الميث، إلا أنهم لم يتعدوا أساسات البناء، وتركوا الحجارة مبعثرة.»6.
أما قريبه روني باسي René basset فهو ينطلق بدوره من أسماء قوس قزح لدى الأمازيغ، وهي تاسليت أونزار مع اختلافات فونيطيقية طفيفة من منطقة إلى أخرى، والتي تعني بالعربية (عروس المطر)، ويرى فيها أثرا لميث مفقود، إذ يقول: «فقوس قزح ينظر إليه على أنه عروس المطر، وهذا الميث يرتبط بالكيفية التي يتم بها استثارة المطر لدى الأمازيغ بالمغرب الكبير»7 أي طقوس تاغنجا التي استعرض شعائرها لدى بعض القبائل.
فهؤلاء الباحثون يكادون يتفقون على أن طقوس تاغنجا تنطوي على عناصر الميث Mythe، لكنهم عوض الإقرار بمحدودية مسحهم الاثنوغرافي، وتجشم مشقة البحث عن بقاياه التي توحي بها المعطيات اللغوية كما لاحظوا ذلك، أطلق بعضهم العنان للتهم المتسرعة التي يجدر بالباحث الاثنولوجي أن ينأى عنها قدر المستطاع.
أما الميـث المعــني الـــــــــذي دونه Genevois فهذا نصه׃
«في قديم الزمان، كان شخص اسمه أنزار، وهو ملك (سيد) المطر، أراد الزواج من فتاة رائعة الجمال تتألق حسنا على الأرض كالقمر في السماء، وكان وجهها ساطعا وثوبها من الحرير المتلألئ، وكان من عادة هذه الفتاة أن تستحم في نهر فضي البريق، وكان ملك المطر كلما هبط إلى الأرض، يدنو منها فتخاف، ثم تعود إلى السماء، لكنه ذات يوم قال لها׃
ها أنا أشق عنان السماء
من أجلك يا نجمة بين النجوم
فامنحيني من الكنز الذي وهبته
وإلا حرمتك من الماء
فردت عليه الفتاة ׃
أتوسل إليك يا ملك المياه
يا مرصع جبهته بالمرجان
إني نذرت نفسي لك
بيد أني أخشى الأقاويل
وبعد سماع هذه العبارات قام من عليها، فأدار خاتمه، فنضب النهر على الفور، وجفت آثار الماء. فأصدرت الفتاة صيحة وتفجرت عيناها بالدموع، فالماء هو روحها، فخلعت ثوبها الحريري وظلت عارية، فخاطبت السماء قائلة׃
أنزار يا أنزار
يا زهر السهول
أعد للنهر جريانه
وتعالى خذ بثأرك
في تلك اللحظة بالذات لمحت ملك المطر، وقد عاد بهيئة شرارة برق ضخمة فضم إليه الفتاة، وعاد النهر إلى سابق عهده في الجريان، فاكتست الأرض كلها اخضرارا».
ويضيف المخبر في سرده للميث׃ «هذا هو أصل تقليد (تاسليت أونزار)، ففي ظروف الجفاف يتم الاحتفال بانزار، والفتاة التي تختار له كعروس بالمناسبة تقدم له عارية»8.
هذه الأسطورة أو الميث يثير بعض الملاحظات نوردها كالتالي:
1- أولا طبيعة العلاقة بين الميث والطقوسrites التي يفسرها، إذ تجعلنا نتساءل أيهما أسبق، هل الميث Mythe سابق و الطقوس تجسيد له، أم الطقوس سابقة والميث جاء لشرحها، بمعنى هل وجد ميث (تاسليت أونزار) أولا، وشخص من قبل الأفراد في شكل طقوس هي عبارة عن لوحات من أدوات وحركات تهدف لإعادة بناء علاقة وجدانية مع أنزار في الظروف التي تستدعي تدخله أو استعطافه، عبر تقديم فتاة عارية تحاكي عروسه الميثية، أم أن الطقوس سبقت، وحيكت الأسطورة لترجمتها إلى مقولات، بحيث تشكل مجرد انعكاس إيديولوجي يوفر مستندا و أساسا له.
إننا هنا في الواقع نثير قضية طالما شغلت الكثير من الباحثين الأنتربولوجيين منذ لانغ حتى مالينوفسكي، مرورا بدوركايم وبرول وفان درلوي، وقدموا بشأنها وجهات نظر مختلفة، لكنها تدور حول محورين رئيسيين يختزلهما السؤالان اللذان طرحناهما آنفا، لذلك فإنه من الصعب إيجاد جواب لهذه المسألة التي باتت مسألة عقيمة، مثلها مثل السؤال ما هو الأول׃ الدجاجة أم البيضة بتعبير أحد الاثنوغرافيين.
2-في تعريفه للميث ذكر ميرسيا إلياد Mercea Eliade أنه يتكون من׃
أولا من رواية أفعال قامت بها كائنات عليا (أنزار والفتاة الأرضية في نصنا).
هذه الرواية تشكل قصة حقيقية بإطلاق (لأنها تتعلق بحقائق يؤمن بها الأفراد أو المجتمع الذي يتداولها).
وتتعلق دائما بخلق شيء جديد، فهي تحكي لنا كيف جاء شيء ما إلى الوجود، وكيف وضعت قواعد لمسلك معين أو مؤسسة معينة أو طريقة معينة لأداء عمل، إن هذا «الخلق» لهو السبب الذي من أجله تكون الأساطير النموذج المثالي لكل فعل بشري محمل بالمعنى.
وإننا إذ نعرف الأسطورة (الميث) فإننا نعرف أصل الأشياء، وتبعا لذلك نصل إلى السيطرة عليها، والتحكم بها حسب إرادتنا: «أصل المطر، هوية البرق…في نصنا»، لكن هذه المعرفة ليست مجردة، بل يمكن أن تعاش طقسيا، إما برواية الميث احتفاليا، أو بأداء الطقس الذي يعطيها المبرر9.
وميث تاسليت أونزار الذي نحن بصدده تنطبق عليه كثير من عناصر هذا التعريف، إذ يعبر عن حقيقة مطلقة بالمعنى الإليادي، ويعتبر نموذجا قابلا للتكرار، لأنه يشكل مثالا للأفعال الإنسانية، لذا يعاش طقسيا بواسطة شعائر (تاسليت أونزارأو تاغنجا) التي يشرحها، أو يفسرها، ويشكل خلفيتها الميثية.
3- يتقاسم البطولة في هذا الميث شخصان׃ أنزار ذو الأصل السماوي الذي يتم تشخيصه في الميث على أنه ملك أو رب المطر، والذي يتم التوجه إليه بتلك الصفة في الأهازيج المؤداة في موكب (تاسليت أونزار) كما سنرى لاحقا في طقوس أيت زيكي (مصدر الميث). الشخص الثاني في الميث هو الفتاة الحسناء التي تتوقف حياتها على الماء الذي يجود به الملك أنزار (أكلّيد أنزار) وتمثل عروس المطر (تاسليت أونزار)، كما ترمز للأرض «الأم» التي يخصبها مطر السماء حسبما وصفت به في إحدى الأغاني التي ترددها النساء في طقس أيت زيكي حين ينهين طوافهن بالعروس حول الضريح׃
أيها الملك المطر
انهارت الأرض الأم
من أجلك تمسكت بالصبر
أو تمثل صنوها أو بالأحرى ضرتها، كما يرد على لسان الفتاة المجسدة لها في نفس الطقس׃
أنا والأرض ضرتان
تزوجنا برجل دون أن نراه
أثداؤنا جافة
فكيف بامكانها أن تدر؟
فاتصال أنزار السماوي والفتاة الأرضية هو المسؤول عن الخصوبة والاخضرار، بما يعني أن هطول المطر إنما ينجم عن زواج كوني بين أنزار، الماء المطري السيد الملك (وضمنيا الإله)، ذي القدرة على الإخصاب كما يوصف في نفس الأغنية الطقسية، وعروسه (الأرض) ׃ تاسليت أونزار، أو ما يتماهى معه.
4-وفي قبيلة أيت زيكي المشار إليها، وهي المنطقة التي التقط منها هذا الميث بالقبايل بالجزائر، يتم الاحتفال بطقوس تاسليت أونزار بهذه الطريقة التي وصفها جونوفوا Genevois10׃
تقوم سيدة مسنة من القرية تحظى بالهيبة والحب بين قومها بتزيين فتاة على أنها عروس أنزار تاسليت أونزار، وتسلمها مغرفة أغنجا، وطيلة مراحل التطواف تردد العروس صيغا وأهازيج مطالبة بتدخل أكليد أنزار، منها׃
أيا أنزار المغرفة يبست
اختفت علامات الخضرة
عروسك تتوسل إليك
أيا أنزار لأنها ترغب بك
وخلال الجولة يتم رشها بالماء، ومنحها عطايا، ويتوجه الموكب الذي يكبر بانضمام أعضاء آخرين خلال تطوافه إلى أحد الأضرحة والمزارات، وهو يردد׃
أنزار!أنزار!
أيها الملك كف عنا الجفاف
كي ينضج المحصول على الجبل
وينمو منتوج السهل
وفي المزار يتم تهييء طعام من المواد المحصلة، وبعد ذلك تجرد المرأة المسنة العروس من ثيابها، وتلفها عارية بإحدى الشبكات المستخدمة لنقل ضمات السنابل والعلف للدلالة على أنه لم يعد هناك في الأرض أثر لعشب أخضر، حيث تطوف الفتاة حول الضريح سبع مرات، وهي تمسك بالمغرفة في يدها، بحيث يكون رأس المغرفة (أغنجا) أمامها كما لو أنها تطلب ماء، ثم تردد واهبة نفسها لرب المطر׃
يا سيد الماء، امنحني الماء
إني أهب روحي لمن يريدها
وتنتهي طقوس (تاسليت أنزار) باجتماع الفتيات البالغات سن الزواج حول الفتاة المجسدة لعروس أنزار، ويبدأن بلعب ما يشبه لعبة كولف أمازيغية يعرف باسم زرزاري، أو تاكورا، أو شيرّا، أو أوجّا في مناطق أخرى. وهي لعبة جد منتشرة بوطن الأمازيغ (بشمال أفريقيا)، وهي ذات طابع طقوسي مرتبط بالمطر والخصوبة، ويتم فيها اللعب بكرة من الفلين، أو من عظم، أو خشب، أو صوف، بمضارب وعصي، حيث يتم التنازع عليها حتى يتمكن أحد اللاعبين أو اللاعبات (في هذا الطقس) من إسقاطها في حفرة، إذ تمثل الكرة المرمية في الحفرة البذرة المزروعة11، فإذا حدث ذلك (دخول الكرة إلى الحفرة) تردد العروس والفتيات أهازيج أخرى.
وتختم الطقوس واللعبة بدفن الكرة حيث الحفرة، وتولي النساء أدراجهن إلى بيوتهن قبل غروب الشمس.
وكما يتضح، يمثل الطقس محاكاة فعلية للميث السابق، إذ يهدف إلى استمطار أنزار، وإثارة فعله المخصب عبر التأثير فيه جنسيا، وتقديم عروس عارية له تمثل العروس الميثية التي يحكي عنها الميث.
وفي هذا الطقس بالذات يلاحظ اقتران تاغنجا (المغرفة) بالفتاة العروس التي تطوف بها، غير أن التركيز يقع على الفتاة أكثر مما يقع على المغرفة، وهذا يعزز الافتراض بأن الدمية المحمولة «تاغنجا» ربما تكون مجرد صورة أو تمثال يراد منه أن يحل محل عروس حقيقية يمثلها، وتقدم إلى سيد المطر كما يؤكد الميث، ومما يدعم ذلك، الطقس المعتمد في إيبقّوين بجبال الريف المغربي الذي تقدم عرضه، والذي يتم فيه في نهاية أدائه تعرية الدمية العروس (تاغنجا)، وغرسها في مزبلة حتى يبللها المطر (أنزار)، بينما تعمد مناطق أخرى إلى توظيف فتاة حقيقية في شعائرالاستمطار، كما هو الحال في إيساكن12 بجنوب المغرب مثلا، حيث يتم الاستعاضة عن المغرفة بما تمثله أي صبية يتيمة يتم التجوال بها منسدلة الشعر، ومقيدة اليدين خلف ظهرها إذ تتقدم بها النساء مرددات׃ أمان، أمان أونزار أي الماء، ماء المطر، وتعملن على إبكائها كما بكت العروس في الميث لاستثارة المطر (أنزار)، وفي منطقة تامجيلت، وهي منطقة جبلية بجبل بويبلادن التابعة لفيدرالية قبائل أيت جليداسن بوسط المغرب يؤدي السكان بعد منتصف النهار من رأس السنة طقس «تيسليت ن واسيف» (أي عروس النهر) حيث تختار أجمل بنات القبيلة، لتقوم بقطع الوادي خمس مرات وشعرها مكشوف، يرافقها الناس بدعوات للاستمطار، وتجدر الإشارة إلى أن النساء في نواحي أكادير بجنوب المغرب كن يذهبن في الماضي أثناء الجفاف إلى ضفة واد سوس، وهن يرددن الأهازيج، ويتجردن من ثيابهن، ويظللن عاريات، حيث يحاولن استثارة المطر، فهن بذلك يعشن طقسيا الميث، ويكررن فعلا أسطوريا قامت به عروس المطر المستحمة في النهر عارية في الميث، حيث أثارت غريزة الملك أنزار الذي أغدق عليها من سائله، فاخضرت الأرض. إنهن يتخلصن بالميث المستبطن، وعن غير وعي، من الزمن الكرونولوجي، ويستعدن الزمن الميثي الذي جرى فيه الحدث البدئي׃ أي الزمن الأسطوري المقدس.
لقد أجمع كل الباحثين على الوحدة المثيرة لطقوس الاستسقاء (تلغنجا) بشمال إفريقيا، لأنها ترتبط بنسق رمزي واحد ومتشابه، وتستند إلى خلفية ميثية قديمة، ورؤية كونية أمازيغية واحدة لعلاقة السماء بالأرض، ولموقع الإنسان في هذا العالم، وهي طقوس تتفق كلها على إضفاء مواصفات العروس على الشخصية المركزية فيها سواء أكانت فتاة أم بديلا لها (المغرفة) بتزيينها بالحلي، وتشخيصها برسوم بشرية، وحملها كعروس حقيقية في موكب مناظر لموكب الزفاف الإنساني نحو زوجها أنزار، ويتم رشها في الطريق بالماء كما يتم بالنسبة لعروس حقيقية في احتفالات الزفاف الأمازيغية. وما يزيح الشك تماما هو كون أنزار ذاته يحضر في موكب الدمية، ويحمل اسم أركاز ن تلغنجا (زوج تلغنجا) في طقوس إينفضواك، ففي قرية تاسمسيت13 بالمغرب تطوف عجوز بدميتين تمثل الأولى (تلغنجا) العروس، وتصنع من مغرفتين متقاطعتين، والثانية زوجها (أركاز ن تلغنجا)، وتصنع من مدق يتم إلباسه خرقا سوداء تشبها بالسماء السوداء الملبدة بالغيوم، وخلال التطواف تردد بعض النساء׃ أتلغنجا ماكّم إيلان ؟( أتلغنجا من تزوجك؟) فيرد البعض الآخر׃ أمان أونزار أكّم إيلان (ماء المطر تزوجك). ويمثل المدق الذي يستعمل في هيكل زوج تلغنجا صورة للقضيب Phallus وعلامة ذكورته، إلا أن «العضو الجنسي ممثل ومستعمل طقوسيا في هذه الحالة لا باعتباره عضوا تناسليا، بل باعتباره عضوا مفرزا للسائل الذي يتماهى رمزيا مع المطر»14 إذ ينظر إلى المطر «أمان أونزار» على أنه سائل ينجم عن التقاء أنزار سيد المطر أو السماء أو زيجته المقدسة مع الأرض الأم، كما يفرز الزوج السائل المنوي بعد اتصاله بالعروس، لذا وجب محاكاة هذه الزيجة الكونية المقدسة (hiérogamie)׃ (سماء- أنزار/ أرض- تاسليت أونزار) طقوسيا لاستسقاء الأرض بالسائل المطري بواسطة إتاحة اقتران تاغنجا ممثلة عروس المطر وبديل المرأة والأرض العذراء غير المخصبة، بزوجها «أنزار» سيد المطرالمشخص للمبدأ الذكوري السماوي المخصب.
إن هذه الزيجة الكونية كوسموغونيةCosmogonie، وبيوغونية Biogonie15 في الآن ذاته، حيث تجدد خلق الحياة عبر سقي الأرض، وإخصابها، وتحقيق تواصل سماء- أرض مجسدا بقوس قزح الذي يسمى عموما في أغلب المناطق الأمازيغية باسم تاسليت أونزار (عروس المطر) والذي يعتقد في (إيمسكّينن) بنواحي أكادير مثلا أنه ملتقى الأرض والسماء. فقوس قزح (تاسليت أونزار) بألوانه المتعددة كألوان ثوب العروس، وكما يدل على ذلك إسمه، يمثل في الكوسموغونية الأمازيغية القديمة الأرض، وقد زفت لأنزار الذي خصبها.
وتجدر الإشارة إلى أن قوس قزح يعرف في العربية العامية المغربية باسم (عروسة الشّتا)، وهو ترجمة حرفية لتسمية (تاسليت أونزار)، وهو تركيب لا يمكن فهمه استنادا إلى خلفية ثقافية أو أسطورية عربية، بل إنه يحيل على المتخيل الأمازيغي، والجذور الميثولوجية الشمال إفريقية، مما يؤكد كون الثقافة الشعبية المتداولة لدى الناطقين بالعامية العربية في المغرب، بل وفي المغرب الكبير بأكمله في كثير من عناصرها، إن لم نقل في أساسها الانثروبولوجي تمتح من المطمور الميثي الشمال الإفريقي القديم.
ميث تاسليت أونزار والزواج البشري:
بما أن كل ميث كوسموغوني يعتبر ميثا نموذجيا بامتياز، فإنه يشكل نموذجا للسلوكات والأفعال البشرية كما بينا أعلاه حسب ميرسيا الياد، لذا اعتبر القران البشري بمثابة محاكاة للزواج الكوني المقدس16، وطقوس الزواج والسلوك الجنسي للبشر تصبح ذات بنية كونية لأنها تعيد إنتاج الزواج المقدس، وتحديدا اتحاد السماء (ممثلة باله المطرأنزار) والأرض، حيث يتماهى الزوج والزوجة بكل من السماء والأرض، فيصير العريس سماويا والعروس أرضية، وهذا يتيح لنا فهم الكثير من المسلكيات والطقوس المؤداة في احتفالات الأعراس الأمازيغية والتي منها «رش العروس بماء العيون المكرسة لذلك أو جعلهن يستحمن في الأنهار، وهي طقوسيات تؤدى في نقاط كثيرة من بلاد الأمازيغ، ويعرف يوم ممارستها في حفلات الزفاف في الجنوب بـ(أسّ ن تاركا ׃ يوم الساقية) حتى في الأنحاء التي اندثر فيها هذا التقليد
محمد أوسوس
0 التعليقات :
إرسال تعليق