
وقد تمخض عن احتكاك الليبيين بهذه الحضارات نهضة فكرية وثقافية ، كان للإغريق والقورينائيين فيها اسهامات عظيمة في مختلف المجالات العلمية والثقافية والفنية. وقد اشتهر منهم رجال تمكنوا من منافسة غيرهم من رواد العلم والمعرفـة . وكان من أشهر هؤلاء الرواد الفيلسوف أرستبوس القورينيAristippus Cyrene (435 ـ 350 ق.م) مؤسس مدرسة قورينا الفلسفية وكرنيادسCarneads ( 214 ـ 129 ق.م ) الشاعر وثيودروس Theodorus (460 ـ ؟) الرياضيوإراتوسثينس الفلكي والجغرافي وغيرهم كثيرون .
وسنقدم في هذا البحث نبذة عن حياة أراتوسثنيس وآثاره العلمية والأدبية ، واسهاماته في تقدم هذه العلوم ، وفاء منا لجهد هذا الرجل الذى طوى الزمن ذكراه ، ولم يعد يذكر ، إلا عند المتخصصين في العلوم والتاريخ القديم ، وتحفيزاً لأبناء هذا البلد ، كي يحذوا حذوه ، ليساهموا في نهضة ليبيا الحديثة بما توفر لديهم من امكانات مادية وفكرية وثقافية .
نشأته :

ونتيجة لخبرته وكفاءته العلمية عُين عضو في هيئة العلوم بمدرسة الإسكندرية ، ثم تولى منصب أمين مكتبتها بعد وفاة زيتودوس Zetodous في حوالي عام 234 ق.م (3) ، حيث قام بتصنيف وتحقيق وتصويب بعض المصنفات ، التي لا شك أنه بذل فيها جهداً مضنياً , لا يتأتى إلا لعالم متمكن ولخبير متمرس في العلوم الرياضية والفلكية والجغرافية والتاريخية وفي علوم اللغة (4) التي تمرس فيها كثيراً ، مما مكنه من تصنيف عشرات الألوف من المصنفات ولفائف البردي التي كانت تزدحم بها مكتبة الإسكندرية (5). وقد ظل أراتوسثنيس رئيساً لمكتبة الإسكندرية حتى أدركه الموت في حوالي عام 194 ق.م .
مؤلفاته :
يعتقد أن أراتوسثنيس ألف كثيراً من المصنفات والرسائل في مختلف ألوان المعرفة ، ولكن للأسف الشديد لم يبق منها إلا شذرات نقلها عنه المؤرخون والكتاب في مؤلفاتهم بصياغات جديدة ، تضمنت افتراضات وتحليلات ووجهات نظر مختلفة ، لكنها كانت سبباً في تعرف العلماء على بعض من مؤلفاته , التي أشار إليها استرابوStrabo (63 ق.م ـ 12 م) وبطليموس Ptolemaios وجالينوس Jalenous( القرن الأول ق.م ) , وهم الذين أولوا اهتماماً بالغاً بهذه المصنفات , وتناولوها بكثير من النقد والتعليق , سواء كان ذلك في الأسلوب أو المضمون .

ورغم ذلك فإنه اشتهر في العصر الهلينستي كأحد العلماء البارزين في العلوم الجغرافية والفلكية والرياضية ، ويمكن أن نستنتج ذلك من خلال الخطوات التي قام بها أرشميدس Archimedes(287 ـ 212 ق.م ) ، الذي أهداه بحثاً بعنوان " مشكلة القطيع في الرياضيات " كما أهداه بحثاً آخر بعنوان " المنهج " مما يدل على تمكنه في علم الرياضيات (12) .
ومهما يكن من أمر فإن مضمون تلك المؤلفات التي قرأنا عنها في مصادرنا ومراجعنا ، كانت تستحق منا العناء ,كي نتعرف على ما كُتب عن أراتوسثنيس ، وبالتالي ما احتوى عليه فكره من نظريات واختراعات , كانت كفيلة برفعه إلى مصاف علماء العصر الهيلينستي .
آثاره العلمية :
لقد كتب أراتوسثنيس أبحاثاً كثيرة سواء في علم الجغرافيا أو علم الفلك أو الرياضيات . ويمكن أن نفصل ذلك في :
اـ علم الجغرافيا :
كانت من أهم أبحاثه الجغرافية ملاحظته لأشعة الشمس ، التي اعتقد أنها تسقط عمودية في مدينة سين Syene(أسوان ) التي تبعد عن مدينة الإسكندرية بحوالي 500 ميل جنوباً ، كما لاحظ أن ظل المسلة في الإسكندرية يختفي تماماً عند ظهر يوم 21 يونيو من كل عام . وقد استنتج من ذلك أن سطح الأرض منحنياً وليس مسطحاً ، إذ لو كان مسطحاً لكان ظل المسلة ثابتاً في كل مكان , ومن ثمَّ اعتقد أن الأرض كروية (13) . لكن هذا الاعتقاد لم يكن هو الأول من نوعه ، إذ سبقه عليه كثير من فلاسفة الإغريق الطبيعيين من أمثال بارمنيدس Barimenides ( القرن الخامس ق.م ) الذي أعلن من قبل أن الأرض تشبه الكرة ، وهي النظرية نفسها التي رددها أفلاطون Plato (427 ـ347 ق.م) من بعده ، غير أن أفلاطون بنى نظريتة على أساس رياضي بحت، لاعتقاده أن الدائرة هي أكمل الأشكال الهندسية (14) . وتطبيقاً لهذه النظرية اعتقد أراتوسثنيس أن الذي يسافر من إيبيريا Iberiaفي اتجاه الغرب ، يمكنه أن يبلغ الهند ، إذا تتبع دائرة من دوائر العرض ، لأن كل البحار متصله مع بعضها بعضا (15) ، وهي تطوق اليابسة كالحزام .
وقد استخدم أراتوسثنيس جهازاً كان يسمى (جنومون) لتحديد درجات العرض. وكان هذا الجهاز عبارة عن مزولة لها شكل الإناء ، وضع في وسطها مؤشراً يسمى جنومون ، وعلى سطح الإناء توجد تقسيمات ، يمكن من خلالها قياس ظل المؤشر ، الذي ينعدم تماماً عند مدينة أسوان في يوم الإنقلاب الصيفي في يوم 21 يونيو من كل عام ، وللتأكد من صحة هذه الفرصية قام أراتوسثنيس بحفر بئر عميقة عند جزيرة الفنتين ( وسط النيل عند أسوان ) ، لرصد ضوء الشمس. وقد لاحظ من هذه التجربة أن الشمس لا تلقى ظلالاً على جانبي البئر ، وإنما تسقط عمودية على سطح الماء ، ومن ثمَّ أدرك أن هذه المنطقة تقع عند مدار السرطان (16) .
وإلى جانب ذلك كان أراتوسثنيس يتمتع بجرأة وعبقرية مكنته من الخوض في المسائل العلمية المعقدة التي أدهشت العلماء والباحثين ، لا سيما عندما قام بتقدير محيط الأرض الذي سبق وأن خاض فيه الفلاسفة الإغريق من قبل ، إذ قدره أرسطو بحوالي 400,000 ألف استاديون (17) ، وقدره أرشميدس بحوالي 300,000 ألف استاديون ، بينما قدره أراتوسثنيس بحوالي 252,000 ألف استاديون ، وهذا التقدير يساوي بالقياسات الحديثة حوالي 39690 كيلو متراً . ولا شك أن هذا الرقم يقترب كثيراً من الرقم المقدر حديثاً والذي يساوي حوالي 40120 كيلو متراً . وعلى هذا الأساس فإن نسبة الخطأ عند أراتوسثنيس لا تتجاوز 1,07 / (18). ولاشك أن هذا الأمر أثار الدهشة والحيرة عند كثير من العلماء والباحثين ، إذ كيف تمكن أراتوسثنيس من تقدير محيط الأرض بهذه الدرجة مع افتقاره لوسائل القياسات العلمية الدقيقة ؟
كذلك كتب أراتوسثنيس في بحوث الجغرافية عن الكيفية التي تصور بها العالم ، والتي خالف فيها وجهة نظر الجغرافيين والمؤرخين الإغريق الذين قسموا العالم إلى ثلاث قارات هي : آسيا ليبيا وأوربا ، لكن أراتوسثنيس رأى أن العالم ينقسم إلى أربعة أقسام ، يفصلها خطان متعامدان ، خط الطول الرئيس الذي يمتد من الشمال إلى جزيرة رودس ومنها إلى مجري نهر النيل في الجنوب. وخط العرض الذي يمتد من أعمدة هرقل ( جبل طارق ) إلى أن يتقاطع مع خط الطول عند جزيرة رودس ، ثم ينحني شمالاً عند جبال طوروس (19). وكان العالم المأهول عنده يمتد من ثولي ( تقع بالقرب من الدائرة القطبية الشمالية ) إلى المحيط الهندي وجزيرة سيلان جنوباً ، ومن المحيط الأطلسي غرباً إلى وسط آسيا وخليج البنغال شرقاً .
وأما فيما يتعلق بالرياح فقد تمكن أراتوسثنيس من التفريق بين الرياح العامة والرياح المحلية . وكانت الرياح العامة تسمى الأباركيتوس ( الشمالية ) والنوتوس ( الجنوبية ) والأيوروس (الشرقية) والزيفروس ( الغربية ) والبورياس ( الشمالية الشرقية) والأرجيستيس (الشمالية الغربية) والأيورنوتوس ( الجنوبية الشرقية ) والليسبس ( الجنوبية الغربية ) (20) .
وإلى جانب ذلك قام أراتوسثنيس بتفسير بعض الظواهر الطبيعية ، إذ فسر فيضان النيل بسقوط الأمطار المدارية في آواخر الربيع وبداية الصيف على الأماكن المرتفعة والنائية التي تأتي منها تلك المياه ، لكن هدا التفسير قذ سبقه عليه أرسطو من قبل . أما الظواهر الطبيعية الأخرى فقد قال أراتوسثنيس إن الكوارث الطبيعية من زلازل وبراكين وفيضانات ضعيقة ، لا يمكنها أن تؤثر على الشكل العام للأرض (21).
وأما فيما يتعلق برسم الخرائط فقد قام أراتوسثنيس برسم خريطة للعالم , واستعان في رسمها ببعض العلامات المييزة التي سماها " سفراجيدس " (22) ، التي تعتمد أساساً على شكل معين يكون مألوفاً في كل بلد , فتصور إيبريا على هيئة جلد ثور , وإيطاليا تشبه ساق ورجل , وسردينبا تمثل أثر قدم بشرية . ويبدو أن هذه الفكرة كانت مستمدة من علامات السواحل عند هيردوت (23) ، أو كانت مستمدة مما كتبه الرحالة والمغامرون الإغريق الذين تمكنوا من زيارة هذه البلدان ، ولكن في كل الأحوال يظل هذا الأمر لغزاً محيراً ، إذ كيف تمكن هؤلاء من الوصول إلى هذه الحقيقة مع افتقارهم إلى الأطالس وصور الأقمار الاصطناعية ؟
ويعتقد أن أراتوسثنيس كان عليماً بأخلاق الأمم والشعوب التي احتك بها أو التي قرأ عنها ، لأنه طلب من الإغريق أن يتخلوا عن فكرة تقسيم بني الإنسان إلى هيلينيين وبرابرة ، وربما فعل ذلك لاعتقاده بأن كل الناس أخوة ، ينبغي أن يعيشوا في وطن واحد ، وهو العالم كله . ولعل فكرته هذه كانت نابعة من الفلسفة الكلبية والرواقية التي لا تفرق بين بني الإنسان , ولا تلتزم بوطن واحد ، بل كانت ترى أن العالم كله وطناٌ واحداً يتساوى فيه الناس أحراراً وعبيداً. وقد كانت هذه الفكرة شائعة في العصر الروماني ، حيث دعا إليها بعض الرواقيين من أمثال أمبولوس Iambulus الذي تصور مملكة دعاها بمملكة الشمس الفاضلة ، تقع في المحيط الهندي , يعيش فيها الناس كمواطنين متساوين ، يعملون جميعاً كخلية النحل (24) . ومن جهة أخرى كان يرى أن الإغريق قوم سفلة أنذال ، وأن أكثرية الفرس والهنود ظرفاء ، وأن الرومان أكثر استعداداً للنظام الاجتماعي والحكم الصالح (25) .
ب ـ علم الفلك :
كانت من أشهر أعماله أنه وضع تقويماً ، قسم فيه السنة إلى 365 يوماً وربع يوم مع وجود سنوات كبيسة . وقد أقر هذا التقويم يوليوس قيصرJulius Ceaser ( 102 ـ 44 ق.م ) ومن ثمَّ سُمّي هذا التقويم بتقويم يوليان (26) ، وهو الذي لا يزال معمولاً به حتى يومنا هذا .
كما قام بتقدير المسافة بين الشمس والأرض التي قدرها بحوالي 804 مليون استاديون ، وبين القمر والأرض بحوالي 780 ألف استاديون . وقد اعتقد بعضهم أن الفضل في هذا يعود لأريستارخوس (النصف الأول من القرن الثالث ) من ساموس ، لأنه هو الذي سبق أراتوسثنيس في هذا المجال. ويذكر بعضهم أنه تناول في كتابه الهندسة حجم الشمس والقمر، وظاهرة الخسوف والكسوف ، واختلاف طول الليل والنهار تبعاً لاختلاف خط العرض والطول(27) .
ولا شك أن المصريين والبابليين والإغريق وعلماء العصر الهلينستى قد كتبوا في علم الفلك الشيء الكثير ، الذي يتلاءم مع خبرات وتجارب تلك العصور . ومن المحتمل أن يكون أراتوسثنبس قد اطلع على تلك المعارف من خلال اطلاعه على البرديات ، أو الكتب الأخرى في مكتبة الإسكندرية ، لكن ذلك لا ينقص من جهد أراتوسثنيس الذي تجرأ وكتب في هذا المجال ، وربما تقدم عليهم خطوات كثيرة ، ساهمت في إرساء قواعد العلم الحديث .
جـ ـ الرياضيات :

وعلى كل فإن أراتوسثنيس قام بحل كثير من المشاكل الرياضية المعقدة التي حيرت علماء عصره ، حيث أشار بابوس Pappus في كتبه الرياضية المنشورة تحت عنوان : Collezione Matematiche إلى كتاب أراتوسثنيس Admedistates ) ) Democis الذي تناول فيه الجذر التكعيبي وكيفية تضعيفه(29) . كما قام بحل المشكلة الديلوسية ، التي تتلخص في أن كاهنة معبد أبوللو اشتكى إليها الناس من انتشار مرض الطاعون , فطلبت منهم ـ على لسان الإله أبوللوـ تضعيف معبده الذي كان على شكل مكعب . وقد حيرت هذه المسألة علماء الرياضة في مخلف أنحاء العالم الهلينستي ، لكن أراتوسثنيس تمكن من حلها بمعادلة رياضية مبتدعة (30) .
وهكذا يمكننا القول بأن أراتوسثنيس القوريني كان من أعظم علماء عصره في مختلف العلوم الجغرافية والفلكية والرياضية ناهيك عن علم التاريخ والفلسفة والشعر ، وأنه تمكن بالفعل من إضافة معارف جديدة إلى سجل الحضارة الإنسانية ، التي كانت تفتقر إلى هؤلاء الرجال المبدعين ، رغم امكاناتهم المحدودة واعتمادهم في المقام الأول على اختراعاتهم وأفكارهم التي رفعتهم إلى مكانة عليا بين أقرانهم من علماء ذلك العصر.
0 التعليقات :
إرسال تعليق